مقاصد سورة العصر العقدية
يقول الله – عز وجلّ: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ [سورة العصر].
سورة العصر من قصار السور التي يحفظها عامة المسلمين -بفضل الله- لكنْ قليلٌ منهم فقط من وُفِّق إلى تدبر مقاصد سورة العصر، واستخراج ما فيها من الأهداف العقدية والإيمانية، وهذه وقفات مع مقاصد سورة العصر وبيانٌ لبعض معانيها ومراميها:
أقسم الله في بداية السورة بالعصر، وهو الزمان الذي يحيا فيه بنو آدم ويمارسون أعمالهم خيرها وشرها، والله -تعالى- عظيمٌ لا يقسم إلا بعظيم، وهذا القسم يتناسب مع المقسم عليه، ويتناسب مع مقاصد سورة العصر التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
فأقسم الله أن الإنسان -أي كل الناس- في خسارة وهلاك، ثم استثنى من تلك الخسارة وذلك الهلاك من اتصفوا بصفاتٍ أربع؛ وهي:
1- الإيمان بالله، ويستلزم معرفة العبد بربه ونبيه ﷺ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
2- العمل الصالح.
3- التواصي بالحق، وهو الدعوة إلى دين الإسلام.
4- التواصي بالصبر.
وهذه الصفات الأربع؛ هي مقاصد سورة العصر العقدية؛ والتي تدور السورة حولها، وتوجّه المسلم للالتفات إليها والاعتناء بها.
قال ابن القيم -رحمه الله- عن مقاصد سورة العصر الأربع:
“جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين.” (زاد المعاد: 3/ 1).
هذه هي مقاصد سورة العصر العقدية، وهي بمثابة السراج الذي يستضيء به المؤمن في حياته لينجو من الخسران والهلاك.
تعرف المقاصد العقدية من الآيات القرآنية.
فضل سورة العصر:
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: “هَذِهِ السُّورَة على اختصارها هي من أجْمَع سور القُرْآن للخير بحذافيره، والحَمْد لله الَّذِي جعل كِتابه كافِيًا عَن كل ما سواهُ، شافيًا من كل داء، هاديًا إلى كل خير” (مفتاح دار السعادة: 1/ 56).
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله: “لو ما أنزل الله حُجةً على خَلْقِه إلا هذه السورة لكَفَتْهم” (تفسير الإمام الشافعي: 1461).
وعلق الشيخ ابن عثيمين على هذا القول: “مراده -رحمه الله- أن هذه السورة كافيةٌ للخلق في الحث على التمسك بدين الله؛ بالإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة؛ لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران؛ وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع” (شرح الأصول الثلاثة: 12، باختصار).
فينبغي على المسلم أن يتعلّم مقاصد سورة العصر، ويعلّمها للأطفال؛ فهي سورة قصيرة يسيرة في الحفظ، ويسهل على الأطفال معرفة ما بها من فوائد، وأما عن سبب نزول سورة العصر؛ فلم يُنقَل لنا نص صحيح في سبب نزولها.
المقصد الأول من مقاصد سورة العصر: (الإيمان)
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
هذا هو المقصد الأول من مقاصد سورة العصر؛ (الإيمان بالله -تعالى)، والإيمان بالله يشمل عدة واجبات.
قال الإمام الطبري في تفسيره لسورة العصر: “إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه” (تفسير الطبري: 24/ 613، 614).
فالإيمان هو: التَّصديقُ الجازمُ بكلِّ ما أخبَرَ به اللهُ ورسولُهُ، مع الإقرارِ والطمأنينةِ، والقَبولُ به والانقيادُ له.
وذكر البخاري أن عمر بن عبد العزيز قد كتب إلى عَدي بن عدي: أن الإيمان فرائض، وشرائع، وحدود، وسنن؛ فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
قال ابن حجر معلقًا على ذلك: “قوله (فرائض) أي: أعمال مفروضة، (وشرائع) أي: عقائد دينية، و(حدود) أي: منهيات ممنوعة، و(سنن) أي: مندوبات”. (فتح الباري: 1/ 47).
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره للمقصد الأول من مقاصد سورة العصر: “ولا يكون الإيمان بدون العلم؛ فهو فرع عنه لا يتم إلا به” (تفسير السعدي: 1103).
ومن هنا تظهر أهمية تعلم أصول العقيدة، وأساسات الإيمان؛ وهي معرفة الله -عز وجلّ- ومعرفة نبيه ﷺ ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، فهذه أمور ثلاث توصل المسلم لتحقيق المقصد الأول من مقاصد سورة العصر.
أولًا: معرفة الله -عز وجلّ:
الأمر الأول الموصل لتحقيق المقصد الأول من مقاصد سورة العصر هو معرفة الله -تبارك وتعالى.
يقول الله -تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19].
وقال النبي ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّه لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ». (مسلم: 26).
قال الخطّابي: “ما يجِبُ من مَعرِفةِ الله -سبحانه وتعالى- أن يعلَمَ أنَّ للعالَمِ بأسِره صانِعًا، وأنَّه هو اللهُ الواحِدُ لا شريكَ له” (بيان تلبيس الجهمية: 1/ 501).
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره لسورة محمد: “وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد كائنًا من كان، بل كلٌ مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه (لا إله إلا هو) يستلزم أمورًا:
- أحدها -بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته.
- الثاني: العلم بأنه -تعالى- المنفرد بالخلق والتدبير؛ فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
- الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
- الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داعٍ إلى العلم، بأنه -تعالى- وحده المستحق للعبادة كلها.
- الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عُبدتْ مع الله، واتُّخذتْ آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا ينصرون من عبدهم؛ فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
- السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
- السابع: أن خواصّ الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولًا، ورأيًا وصوابًا، وعلمًا -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك.
- الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه” (تفسير السعدي: 928، 929 بتصرف يسير واختصار).
وقال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله: “لا صلاحَ للقُلوبِ حتى يستقِرَّ فيها مَعرِفةُ اللهِ وعَظَمتُه ومَحبَّتُه وخَشيتُه ومَهابتُه ورَجاؤُه والتوَكُّلُ عليه، وتمتَلِئَ من ذلك، وهذا هو حقيقةُ التَّوحيدِ، وهو معنى قَولِ (لا إلهَ إلَّا اللهُ)؛ فلا صلاحَ للقُلوبِ حتى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتَعرِفُه وتُحبُّه وتخشاه هو اللهَ وَحْدَه لا شريكَ له” (جامع العلوم والحكم: 1/ 211).
إذن معرفة الله -تعالى- هي الخطوة الأولى لتحقيق المقصد الأول من مقاصد سورة العصر، وهو الإيمان بالله -عز وجلّ.
ثانيًا: معرفة نبيه ﷺ:
الخطوة الثانية لتحقيق المقصد الأول من مقاصد سورة العصر، هي معرفة النبي ﷺ، وهو خير خلق الله؛ محمد بن عبد الله ﷺ، سيد ولد آدم، الذي أكرم الله به هذه الأمة وشرّفها، والذي بلّغ رسالة ربه وأداها على أكمل وجه، صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
ومعرفة نبينا ﷺ تتضمن أمورًا:
- الإقرار له بالنبوة والرسالة.
- قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق، وتصديقه فيما أخبر.
- امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
- تحكيم شريعته والرضا بأحكامه ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
- الاهتمام بدراسة سيرته العطرة، واستذكار أحاديثه الشريفة المطهرة.
فهذا كله من لوازم حبنا لنبينا ﷺ وأداء حقه والاعتراف بفضله بعد الله، كما أن هذا هو السبيل لتمام الإيمان وتحقيق أول مقاصد سورة العصر.
ثالثًا: معرفة دين الإسلام بالأدلة:
هذه هي الخطوة الثالثة لتحقيق المقصد الأول من مقاصد سورة العصر.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: “الإسلام بالمعنى العام: هو التعبد لله بما شرع منذ أن أرسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة، كما ذكر -عز وجل- ذلك في آيات كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله، قال الله -تعالى- عن إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً﴾ [البقرة: ١٢٨].
والإسلام بالمعنى الخاص: يختص بما بُعث به محمد ﷺ؛ لأن ما بُعث به النبي ﷺ نسخ جميع الأديان السابقة؛ فصار من اتبعه مسلمًا ومن خالفه ليس بمسلم.
فَأَتْباع الرسل مسلمون في زمن رسلهم؛ فاليهود مسلمون في زمن موسى -صلى الله عليه وسلم- والنصارى مسلمون في زمن عيسى -صلى الله عليه وسلم- وأما حين بُعث النبي محمد ﷺ فكفروا به فليسوا بمسلمين.
وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله النافع لصاحبه قال الله -عز وجل: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن به على محمد ﷺ وأمته”.
وقال -رحمه الله- أيضًا: “والأدلة على معرفة دين الإسلام سمعية وعقلية؛ فالسمعية ما ثبت بالوحي وهو الكتاب والسنة، والعقلية ما ثبت بالنظر والتأمل، وقد أكثر الله -عز وجل- من ذكر هذا النوع في كتابه؛ فكم من آية قال الله فيها ومن آياته كذا وكذا وهكذا.
كذلك النظر والتأمل فيما أتى به ﷺ من الآيات البينات، والتي أعظمها هو كتاب الله -عز وجل- المشتمل على الأخبار الصادقة النافعة والأحكام المصلحة العادلة، وما جرى على يديه ﷺ من خوارق العادات، وما أخبر به من أمور الغيب التي لا تصدر إلا عن وحي”. (شرح الأصول الثلاثة: 7، 8 باختصار وتصرف يسير).
وبهذا تتم الخطوات الثلاثة الموصلة لتحقيق أول مقاصد سورة العصر، وهو الإيمان بالله -عز وجلّ.
كيف أَتَفَقَّه في الدين؟
إذا علم المسلم أن معرفة الله ونبيه ﷺ ومعرفة دين الإسلام بالأدلة هي من أهم مقاصد سورة العصر، وعلم أن هذا هو سبيل نجاة الإنسان في هذه الحياة؛ فلا بد أن يُثْمر ذلك عنده الرغبةَ في معرفة ربه ونبيه ﷺ، ودين الإسلام وعلومه.
وأول ما يُنصَح به طالب الحق هو الاعتناء بأعظم الكتب على الإطلاق، وهو كتاب الله -عز وجلّ؛ فيهتم بإتقان التلاوة ومعرفة المعاني وتدبّر الآيات، ويعتني بحفظه وإجادته وإتقانه.
ثم عليه بكُتُب الحديث الصحيحة وقراءة شرحها المبسط؛ مثل: (الأربعين النووية)، وكتاب (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، وكتاب (عمدة الأحكام) للمقدسي، وغيرها من الكتب المحققة.
ومن الكتب التي يوصَى بها في الفقه؛ كتاب (آداب المشي إلى الصلاة) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو كتاب جيد في أحكام الصلاة، والزكاة، والصيام.
كذلك كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن قيم الجوزية، وكتاب (الوابل الصيب في الكلم الطيب) لابن القيم أيضًا، ففيهما فوائد جمة.
وإذا وضع طالب العلم قدمه على أول الطريق، وخطا خطواته الأولى فيه، مسترشدًا بشيخ يثق في رأيه ويستأنس بحكمته، وجد صعاب العلم تذلِّل له نفسَها، وهان عليه كل عسير بتوفيق من الله -سبحانه.
هذا هو المقصد الأول من مقاصد سورة العصر.
المقصد الثاني من مقاصد سورة العصر: (العمل الصالح)
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
العمل الصالح هو المقصد الثاني من مقاصد سورة العصر، وغالبًا ما يأتي مقرونًا بالإيمان في آيات القرآن، وسر هذا الاقتران هو أن الإيمان يستلزم العمل الصالح ليكتمل، فالإيمان -في مذهب أهل السنة والجماعة- مركّب من اعتقادٍ وقولٍ وعمل، وليس كما تعتقد الفرق الضالة من المرجئة وغيرهم؛ في أن الإيمان لا تضر معه معصية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: “إن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح؛ وبعض الناس يحكي هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركه.” (مجموع الفتاوى: 7/ 181).
ويتبين من ذلك؛ الارتباط الوثيق بين أول مقصدين من مقاصد سورة العصر؛ فلا يكتمل أحدُهما إلا بالآخر، كما تتبين لنا أهمية ومكانة العمل الصالح في الإسلام، فالعمل الصالح هو ثمرة الإيمان والعلم بالله ونبيه ﷺ والعلم بدين الإسلام، ولا يكون العمل الصالح إلا عن علم، فمن عمل دون علم أشبه النصارى الذين وصفهم الله بالضالين، ومن تعلّم ولم يعمل بعلمه أشبه اليهود الذين غضب الله عليهم.
فما المقصود بالعمل الصالح المذكور في القرآن عامةً؛ وفي مقاصد سورة العصر خاصةً؟
مفهوم العمل الصالح:
العمل الصالح هو العمل الذي يرضاه الله -سبحانه وتعالى- قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في بيان العمل الصالح عند الله: “أي العمل بما تقتضيه هذه المعرفة من الإيمان بالله والقيام بطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه من العبادات الخاصة، والعبادات المتعدية، فالعبادات الخاصة مثل الصلاة، والصوم، والحج، والعبادات المتعدية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك” (شرح الأصول الثلاثة: 8).
ولكي يكون هذا العمل الصالح مقبولًا عند الله -عز وجلّ- ويكون محققًا لمقاصد سورة العصر التي تنجي صاحبها من الهلاك؛ ينبغي أن يستوفي شروطًا كي لا يصبح يوم القيامة هباءً منثورًا.
ما شروط العمل الصالح؟
أَيُّ عملٍ يتقرب به العبد لربه لا يكون عملًا صالحًا مقبولًا عند الله -تعالى- إلا إذا حقّق شرطين:
- الشرط الأول: الإخلاص؛ بأن يكون العمل خالصًا لوجه الله -تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11]، فلا يُراد بالعمل الصالح التقرّب لأحدٍ من الخلق، ولا السعي لتحصيل مصلحة من مالٍ أو شهرةٍ أو رياءٍ أو غيره، قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى: ” أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ” (مسلم: 2985).
- الشرط الثاني: المتابعة؛ بأن يكون العمل موافقًا لما جاء في سنة النبي ﷺ، وإلا كان مبتدَعًا مردودًا على صاحبه، قال النبي ﷺ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ» (مسلم: 1718).
فهذان شرطان أساسيان لا غنى لمسلمٍ عنهما في أي عملٍ يريد به وجه الله الكريم، ويطلب به الخلود في جنات النعيم؛ كي ينال على عمله الأجرَ والثوابَ الذي وعد الله، وينجو من الخُسرِ بتحقيق مقاصد سورة العصر على مراد الله.
من أنواع العمل الصالح:
إذا علم المسلم فضل العمل الصالح، وأراد أن يحقق المقصد الثاني من مقاصد سورة العصر، فإن أول سؤال يتبادر إليه: ما الأعمال الصالحة التي ينبغي أن يعملها؟
وأنواع العمل الصالح ووجوهه كثيرة لا تكاد تُحصى؛ لأن الله كريم رحيم، يجازي على أقل العمل ويوفي أجرَه لصاحبه، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]، ومن أهم الأعمال الصالحة التي ينبغي للمسلم الحريص ألا يفوّتها:
- الصلاة على وقتها.
- بر الوالدين.
- الجهاد في سبيل.
لما ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «سَأَلْتُ النبيَّ ﷺ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلَاةُ علَى وقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: برُّ الوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ» (البخاري: 5970).
- الصيام.
- الزكاة والصدقات.
فقد قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه: «ألا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخيرِ؟” قال: قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ! قال: الصومُ جُنَّةٌ، و الصدقةُ تُطفِيءُ الخطيئةَ كما تُطفِيءُ الماءُ النارَ» (صحيح الترغيب: 868).
- الحج والعمرة: قال رسول الله ﷺ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فإنَّ مُتَابَعَةَ مَا بَيْنَهُمَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِِ وَالرِّزْقِ». (السلسلة الصحيحة: 3/ 197).
- قراءة القرآن: قال النبي ﷺ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ؛ فَلَهُ بِهِ حَسْنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها» (السلسلة الصحيحة: 3327).
- ذِكر الله: قال الله -تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35].
- طلب العلم الشرعي: قال رسول الله ﷺ: «مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (البخاري: 3116).
- الحياء: قال النبي ﷺ: «وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» (البخاري: 9).
- الرفق وحسن الخلق: قال ﷺ: «إنَّ الرِّفْقَ لَا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إلَّا شَانَهُ» (مسلم: 2594)، وقال ﷺ: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ» (مسلم: 2553).
- الصدق والأمانة: لأن ضدهما الكذب والخيانة، وهما من صفات المنافقين، قال النبي ﷺ: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» (البخاري: 2749).
- إعانة ذوي الحاجات.
- كف الأذى والإمساك عن الشر.
فقد قال رسول الله ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فمَن لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ ويَتَصَدَّقُ. قالوا: فإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قالَ: يُعِينُ ذا الحاجَةِ المَلْهُوفَ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فإنَّها لَهُ صَدَقَةٌ» (البخاري: 1445).
- إماطة الأذى عن الطريق: فقد قال ﷺ: «وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (مسلم: 1009).
فهذه بعض وجوه الأعمال الصالحة التي يستطيع من خلالها عامةُ المسلمين أن يحققوا المقصد الثاني من مقاصد سورة العصر، فليلتمس كل مسلم الباب الذي يحسنه وليجتهد فيه، ولا يَنْسَ نصيبه من سائر أبواب العمل الصالح، ففي جميعها البركة والنفع العظيم.
ثمرات العمل الصالح في الدنيا والآخرة:
إذا لزم المسلم الأعمال الصالحة، وكرّس حياته في سبيل الله، فإن الله يجازيه في الدنيا قبل الآخرة، قال -تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [النحل: 97]، ومما وعد الله به عباده الصالحين:
- حب الله -عز وجلّ- للعبد، ودفاعه عنه: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه -عز وجلّ: «مَنْ عادَى لِي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (البخاري: 6502).
- مودة الناس وحبهم: قال الله -تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96]، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: “يخبر -تعالى- أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة” (مختصر تفسير ابن كثير: 2/ 467).
- حفظ الأبناء والذرية: قال -تعالى- حاكيًا عن عبده الخضر: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ [الكهف: 82].
- البشرى بدخول الجنة: قال -تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 25].
- الوقاية من عذاب القبر: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه إنَّه يَسْمَعُ خَفْقَ نِعالِهم حِينَ يُوَلُّونَ مُدْبِرينَ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانِ الصِّيامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكاةُ عَنْ شِمَالِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيراتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فيُؤتَى مِن قِبَلِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ مَا قِبَلي مَدَخْلٌ، ثُمَّ يُؤتَى عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ الصِّيامُ: مَا قِبَلي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤتَى عَنْ يَسَارِهِ فَتَقُولُ الزَّكاةُ: مَا قِبَلي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيراتِ مِنَ الصَّدقةِ وَالصَّلاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلي مَدْخَلٌ…» حتى قال ﷺ: «ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فيُقالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ وَمَا أَعَدَّ اللهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ فَيْزَدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ» (صحيح الترغيب: 3561).
فإذا تعلّم المسلمون هذا المقصد من مقاصد سورة العصر، وعلموا أن العمل الصالح هو طريق نجاتهم من الخسران والهلاك، والتزموا به قدرَ الإمكان والاستطاعة، فإن ثمرة ذلك العمل الصالح لن تقتصر على الفرد فقط، بل ستعمّ المجتمع الإسلامي بالخير والبركة، وستكون سبيلهم إلى العزة والنصر والتمكين بإذن الله، هذا وعد الله للمؤمنين، وحاشاه -سبحانه- أن يخلف وعده ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55].
هذا هو المقصد الثاني من مقاصد سورة العصر.
المقصد الثالث من مقاصد سورة العصر: (التواصي بالحق)
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾
المقصد الثالث من مقاصد سورة العصر هو التواصي بالحق، وقد ذكر الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾: “أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه” (تفسير السعدي: 1103).
فالتواصي مأخوذ من الوصية؛ أي: أن يوصي المؤمنون بعضهم بعضًا بهذه الأمور، فلا يكتفي المؤمن بالسير على طريق الهدى وحدَه، بل يجتهد في الأخذ بيد إخوانه وحثهم وتحفيزهم للرجوع إلى الله ونبذ الشرك والمعاصي، وهذا التعاون والتواصي بين المسلمين هو من أهم مقاصد سورة العصر التي تعتني بها وترشد المسلمين إلى التزامها.
وذكر الإمام الطبري في معنى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾: “أوصى بعضهم بعضًا بلزوم العمل بما أنـزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه” (تفسير الطبري: 24/ 614).
إذن التواصي بالحق والدعوة إلى الله هو ثالث مقاصد سورة العصر، وهو النفع المتعدي للغير، وهو من أخص صفات هذه الأمة، قال -تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
مكانة الدعوة إلى الله:
إذا تعلّم الإنسان عن ربه ونبيه ﷺ ودينه، وألزم نفسه بالعمل الصالح، فإن خطوته التالية الحتمية هي دعوة الخلق للحق؛ لأن الإيمان الذي وقر في قلبه وفاض على جوارحه، يدفعه لحب الخير والهداية لإخوانه ومن حوله، قال ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (البخاري: 13).
ومن الأحاديث الدالّة على فضل الداعي إلى الله:
- من وصايا النبي ﷺ: «..ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» (البخاري: 2942).
- وقال ﷺ: «مَنْ دَعا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شيئًا» (مسلم: 2674).
- وقال ﷺ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ” (مسلم: 49).
فالدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء التي ترخُص في سبيلها الأعمار والأموال، ولا يدانيها عملٌ ولا يرقى لفضلها شغل، قال -تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، ولهذا كانت الدعوة إلى الله مقصدًا رئيسًا من مقاصد سورة العصر.
كيف نتواصى بالحق؟
من فضل الله علينا أن جعل مجالات التواصي بالحق والدعوة إليه كثيرة عديدة، بحيث يستطيعها كل مسلم على قدر علمه وطاقته وقدراته، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عن هذا المقصد من مقاصد سورة العصر:
“مجالات الدعوة كثيرة منها:
- الدعوة إلى الله -تعالى- بالخطابة، وإلقاء المحاضرات.
- ومنها الدعوة إلى الله بالمقالات.
- ومنها الدعوة إلى الله بحلقات العلم.
- ومنها الدعوة إلى الله بالتأليف ونشر الدين عن طريق التأليف.
- ومنها الدعوة إلى الله في المجالس الخاصة، فإذا جلس الإنسان في مجلس في دعوة مثلًا فهذا مجال للدعوة إلى الله -عز وجل- ولكن ينبغي أن تكون على وجه لا ملل فيه ولا إثقال؛ ويحصل هذا بأن يعرض الداعية مسألة علمية على الجالسين، ثم تبتدئ المناقشة، ومعلوم أن المناقشة والسؤال والجواب له دور كبير في فهم ما أنزل الله على رسوله وتفهيمه، وقد يكون أكثر فعالية من إلقاء خطبة أو محاضرة إلقاءً مرسلًا كما هو معلوم” (شرح الأصول الثلاثة: 9).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله: “الدعوة لا تختص بالمساجد فقط، فهناك مجالات وطرق أخرى، والمساجد لا شك أنها فرصة للدعوة كخطب الجمعة والخطب الأخرى، والمواعظ في أوقات الصلوات وفي حلقات العلم، فهي أساس انتشار العلم والدين، ولكن المسجد لا يختص وحده بالدعوة؛ فالداعي إلى الله يدعو إليه في غير المساجد، في الاجتماعات المناسبة أو الاجتماعات العارضة، فينتهزها المؤمن ويدعو إلى الله، وعن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وعن طريق التأليف، كل ذلك من طرق الدعوة. والحكيم الذي ينتهز الفرصة في كل وقت وكل مكان، فإذا جمعه الله بجماعة في أي مكان وأي زمان وتمكن من الدعوة بذل ما يستطيع من الدعوة إلى الله بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن” (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 8/ 407).
ومن وسائل الدعوة إلى الله التي يغفل عنها كثير من الناس الدعوة إلى الله عن طريق حُسن السلوك ومكارم الأخلاق؛ فإن المسلم إذا تخلَّق بأخلاق الإسلام، وتأسَّى برسوله ﷺ الذي وصفه ربه -تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فإن هذه الأخلاق تكون خير وسيلة للدعوة إلى دين الإسلام، دون الحاجة إلى إلقاء الخطابات أو تدوين المقالات؛ لأن للأفعال تأثيرًا أبلغ من الأقوال في كثير من الأحوال.
وقد جعل اللهُ حُسنَ الخلق سببًا في دخول كثير من الشعوب لدين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ مثل شعوب القبائل الأفريقية، وشعوب جنوب شرق آسيا، وبلاد الهند والصين وغيرها؛ لِما رأوا من أمانة التاجر المسلم، ونبيل خصاله، وثباته على مبادئه وعقيدته.
وعليه؛ فإن ميدان الدعوة واسع مفتوح، ينتظر كل من ينزل إليه بعُدّته وعتاده، ويرحّب بكل جهد محمودٍ مبذول، وكل طاقة متوهجة تنبعث من قلب يحمل هَمَّ الأمة، ويحرص على نشر الحق وهداية الخلق، وهذا هو المقصد الثالث من مقاصد سورة العصر.
المقصد الرابع من مقاصد سورة العصر: (التواصي بالصبر)
﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
هذا هو المقصد الرابع من مقاصد سورة العصر؛ التواصي بالصبر، ومعنى قوله -تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾: “أي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر على فعل أوامر الله -تعالى- وترك محارم الله، وتحمُّل أقدار الله” (شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين: 11).
قال الإمام ابن عاشور: “والتَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ مِلاكُ فَضائِلِ الأخْلاقِ كُلِّها، فَإنَّ الِارْتِياضَ بِالأخْلاقِ الحَمِيدَةِ لا يَخْلُو مِن حَمْلِ المَرْءِ نَفْسَهُ عَلى مُخالَفَةِ شَهَواتٍ كَثِيرَةٍ، فَفي مُخالَفَتِها تَعَبٌ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ حَتّى تَصِيرَ مَكارِمُ الأخْلاقِ مَلَكَةً لِمَن راضَ نَفْسَهُ عَلَيْها، كَما قالَ عَمْرُو بْنُ العاصِ:
إذا المَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعامًا يُحِبُّهُ ∗∗∗ ولَمْ يَنْهَ قَلْبًا غاوِيًا حَيْثُ يَمَّما
فَيُوشِكُ أنْ تُلْفى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةٌ ∗∗∗ إذا ذُكِرَتْ أمْثالُها تَمْلَأُ الفَما
وكَذَلِكَ الأعْمالُ الصّالِحَةُ كُلُّها لا تَخْلُو مِن إكْراهِ النَّفْسِ عَلى تَرْكِ ما تَمِيلُ إلَيْهِ. وفي الحَدِيثِ: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ وحُفَّتِ النّارُ بِالشَّهَواتِ» (مسلم: 2822)، وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لا تَكْبُو” (التحرير والتنوير: 30/ 533، 534).
ولهذا خُتِمت مقاصد سورة العصر بالوصية بالصبر؛ لأن الصبر هو الذي يعين المسلم على التزام المقاصد الثلاثة الأولى من مقاصد سورة العصر، والثبات عليها، وتحمّل الأذى في سبيلها.
كيف يكون التواصي بالصبر؟
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عن هذا المقصد من مقاصد سورة العصر: “تواصوا بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله.
فالصبر على الطاعة: إذا رأيت من أخيك تكاسلًا عن الصلاة -مثلًا- انصحه، وإذا قال لك: والله النوم يغلبني، قل له: اصبر، ولو شق عليك، فاليوم يشق عليك وغدًا لا يشق عليك.
والصبر أيضًا يكون عن المعصية، إنسان -مثلًا- همَّ بمعصية وجاء يخبر أخاه يقول له: اصبر، احتسب، انتظر الفرج من الله. يأتي إليك أخوك يشكو إليك يقول: فلان والله كان يؤذيني أتعبني: ماذا تقول له؟ اصبر فدوام الحال من المحال، أنت إذا صبرت الآن على أذيته، فإن الله سوف يعطف قلبه عليك: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:٣٤] أي: صديق قريب. لذلك من الرابحين من يتواصون بالصبر وبالحق، نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا وإياكم منهم” (كتاب اللقاء الشهري: 37/ 7).
الصبر على الأذى في الدعوة:
على الرغم من أن التواصي بالصبر المذكور في مقاصد سورة العصر يشمل جميع أنواع الصبر، إلا أن أخص أنواع الصبر المراد من السورة، هو الصبر على الأذى في الدعوة.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: “الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله؛ فيحبس النفس عن التسخط والتضجر والملل، ويكون دائمًا نشيطًا في الدعوة إلى دين الله وإن أُوذِي؛ لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر إلا من هدى الله قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام: ٣٤].
وكلما قويت الأذية قرب النصر، وليس النصر مختصًّا بأن يُنصَر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق، بل النصر يكون ولو بعد موته؛ بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولًا لما دعا إليه وأخذًا به وتمسكًا به، فإن هذا يُعتبر نصرًا لهذا الداعية وإن كان ميتًا، فعلى الداعية أن يكون صابرًا على دعوته مستمرًّا فيها، صابرًا على ما يعترضه هو من الأذى.
وهاهم الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أوذوا بالقول وبالفعل قال الله -تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢] وقال -عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: ٣١]، ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر.
وانظر إلى قول الله -عز وجل- لرسوله ﷺ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾ [الإنسان: ٢٣] كان من المنتظر أن يُقال فاشكر نعمة ربك، ولكنه -عز وجل- قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الإنسان: ٢٤] وفي هذا إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلا بد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر.
وانظر إلى حال النبي ﷺ حين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (البخاري: 3477)، فعلى الداعية أن يكون صابرًا محتسبًا” (شرح الأصول الثلاثة: 9، 10).
لماذا عطف الله التواصي بالصبر على التواصي الحق؟
عطف الله -عز وجلّ- التواصي بالصبر على التواصي بالحق، وقدّم الحقَّ على الصبر، ولعل السر في ذلك هو كما قال الإمام ابن عاشور: “التَّواصِي بِالصَّبْرِ عُطِفَ عَلى التَّواصِي بِالحَقِّ عَطْفَ الخاصِّ عَلى العامِّ؛ لِأنَّ الصَّبْرَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ إقامَةِ الحَقِّ وما يَعْتَرِضُ المُسْلِمَ مِن أذًى في نَفْسِهِ في إقامَةِ بَعْضِ الحَقِّ” (التحرير والتنوير: 30/ 533 باختصار).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: “بالتواصي بالحق إقامة الحق، والاستقامة على الطريق المستقيم، وبالتواصي بالصبر يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط، ويتخطون كل عقبات تواجههم” (أضواء البيان: 9/ 96، 97).
ومن القيم المستفادة من قوله -تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾؛ ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذين المقصدين من مقاصد سورة العصر:
“لا بُدَّ مِن التَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ؛ إذ إنَّ أهلَ الفَسادِ والباطِلِ لا يقومُ باطِلُهم إلَّا بصبرٍ عليه أيضًا، لكِنِ المؤمنونَ يَتواصَونَ بالحَقِّ والصَّبرِ، وأولئك يتواصَونَ بالصَّبرِ على باطِلِهم، كما قال قائِلُهم: ﴿أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ [ص: 6]، فالتَّواصي بالحَقِّ بدونِ الصَّبر -كما يفعَلُه الَّذين يقولونَ: آمَنَّا باللهِ، فإذا أُوذِيَ أحَدُهم في اللهِ جَعَل فِتنةَ النَّاسِ كعذابِ اللهِ، والَّذين يَعبُدونَ اللهَ على حَرْفٍ، فإنْ أصاب أحَدَهم خيرٌ اطمأَنَّ به، وإنْ أصابَتْه فتنةٌ انقَلَب على وجْهِه خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ- والتَّواصي بالصَّبرِ بدونِ الحَقِّ: كِلاهما مُوجِبٌ للخُسرانِ” (جامع الرسائل: 2/ 394).
فهذا هو المقصد الرابع من مقاصد سورة العصر.
وإذا نظرنا نظرةً عامّةً إلى مقاصد سورة العصر، نجد أنها تشمل حياة المسلم كلها، وترشده لجميع ما يحتاجه في طريقه إلى الله، وفي سبيل الفوز بالجنة والنجاة من النار، كما أن مقاصد سورة العصر هي بمثابة المنارة التي يستضيء بها كل من كان همُّه أن تنتصر الأمة، وأن تكون كلمة الله هي العليا.
قال الإمام ابن القيم عن مقاصد سورة العصر الأربع: “..وباستكمالِها يحصل للشخص غاية الكمال؛ إحداها: معرفة الحق، الثانية: عمله به، الثالثة: تعليمه من لا يحسنه، الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه” (مفتاح دار السعادة: 1/ 82).
وقال الشيخ السعدي عن مقاصد سورة العصر الأربع: “فبالأمرين الأولين يكمِّل الإنسانُ نفسَه، وبالأمرين الأخيرَين يكمِّل غيرَه، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلِم من الخسار، وفاز بالربح العظيم” (تفسير السعدي: 1103).
وختامًا: فإن من إعجاز القرآن، أنه لا يخلَق ولا يبلى على كثرة الرد والتكرار؛ فكلُّ ما ذكرناه من أقوال العلماء واستنباطاتهم هو فقط في بيان مقاصد آيةٍ واحدة من سورة العصر، ونحن مع ذلك لم ننقل جميع تفاسير العلماء وما فتح الله به عليهم في الآية من الفوائد والعِبَر؛ لأن المقام لا يتسع لطول المقال، فسبحان الله العظيم منزل الكتاب الحكيم.